حكم من يريد تقسيم مالة بين اولادة قبل موتة
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
حكم من يريد تقسيم مالة بين اولادة قبل موتة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فنتسائل ما الحكم فيمن يقول: إني أريد أن أقسم مالي بين أولادي قبل أن أموت حتى لا يتنازعوا عليه بعد موتي ؟
بداية نقرر أن ذلك الفعل لا يطلق عليه ميراث، وذلك لعدم تحقق الشرط الأول من شروط الميراث وهو موت المورث، فالمورث هنا لم يمت ومن ثم فلا يقسم ماله على ورثته.
ثانيا: نقول: إن ذلك الفعل قد يكون بنية حسنة وقد يكون بنية سيئة، فالنية الحسنة أن ينوي تقسيم المال على ورثته حتى لا يتنازعوا عليه بعد وفاته، والنية السيئة تكمن في حرمان بعض الورثة من الميراث كأن يكون للمرء زوجة وبنات وإخوة أشقاء فيقسم ماله على زوجته وبناته حتى لا يرث إخوته الأشقاء من ماله شيئا بعد وفاته، وهذا لا شك يدخل تحت قوله تعالى بعد أن انتهى من إعطاء كل ذي حق حقه من الميراث: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [النساء: 14] .
ثالثا: يرد على قوله: «حتى لا يتنازعوا عليه بعد موتي». بقوله تعالى: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا [النساء: 9]، فمن خاف على أولاده أن يتنازعوا على ماله بعد موته فعليه أن يتقي الله ويسدد ويقارب ويربيهم على طاعة الله والخوف منه، وقد سمعنا عن أناس وزعوا مالهم على أولادهم في حياتهم ولم يتركوا لأنفسهم شيئا، فما كان من الأبناء إلا أن أعرضوا عن الأب ولم ينفقوا عليه بل ومنعوه من الانتفاع بماله حتى مات، وما هذا إلا لأنه أساء تربيتهم وخشي عليهم أن يتنازعوا على ماله بعد موته.
رابعا: يجوز للمرء أن يعطي أولاده من ماله على سبيل الهبة أو الأعطية في حياته مع مراعاة الآتي:
1- يجب عليه أن يسوي بين أولاده في العطية؛ لما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما، فقال: أكل ولدك نحلت مثله ؟ قال: لا. قال: فأرجعه.
وروى أيضا بسنده عن حصين بن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع فرد عطيته. [رواه البخاري].
ولمسلم في رواية أبي حيان: «فقال: لا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور». وفي رواية المغيرة عن الشعبي عند مسلم: «اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر».
2- صفة التسوية:
اختلف الفقهاء في صفة التسوية على رأيين:
الرأي الأول: روى عن عطاء وشريح وإسحاق ومحمد بن الحسن تقسيم الأعطيات على حسب قسمة الله تعالى الميراث فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين.
قال شريح لرجل قسم ماله بين ولده: ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه، وقال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى.
الرأي الثاني: عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن المبارك تعطى الأنثى مثل ما يعطى الذكر.
الأدلة: دليل الرأي الأول
1- قالوا: إن الله تعالى قسم بينهم فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وأولى ما اقتدي به قسمة الله تعالى.
2- لأن العطية في الحياة أحد حالي العطية فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كحال الموت (يعني الميراث).
3- العطية استعمال لما يكون بعد الموت فينبغي أن تكون على حسبه: كما أن معجل وجوبها يؤديها على صفة أدائها بعد وجوبها وكذلك الكفارات المعجلة.
4- لأن الذكر أحوج من الأنثى من قبل أنهما إذا تزوجا جميعا فالصداق والنفقة ونفقة الأولاد على الذكر، والأنثى لها ذلك فكان أولى بالتفضيل لزيادة حاجته، وقد قسم الله تعالى الميراث ففضل الذكر مقرونا بهذا المعنى فتعلل به ويتعدى ذلك إلى العطية في الحياة.
دليل الرأي الثاني
1- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد: «سو بينهم»، وعلل ذلك بقوله: أيسرك أن يستووا في برك ؟ قال: نعم. قال: فسو بينهم. والبنت كالابن في استحقاق برها وكذلك في عطيتها.
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سووا بين أولادكم في العطية ولو كنت مؤثرا لآثرت النساء على الرجال»(1).
3- لأنها عطية في الحياة فاستوى فيها الذكر والأنثى كالنفقة والكسوة.
الاعتراض على الأدلة
اعترض أصحاب الرأي الأول على أدلة الرأي الثاني بالاعتراضات الآتية:
1- حديث بشير قضية في عين وحكاية حال لا عموم لها وإنما ثبت حكمها فيما ماثلتها ولا نعلم حال أولاد بشير هل كان فيهم أنثى أو لا ؟ ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أنه ليس له إلا ولد ذكر.
2- تحمل التسوية على القسمة على كتاب الله تعالى.
3- يحتمل أنه أراد التسوية في العطاء لا في صفته فإن القسمة لا تقتضي التسوية من كل وجه، ودليل ذلك قول عطاء: «ما كانوا يقتسمون إلا على كتاب الله تعالى». وهذا خبر عن جميعهم.
4- يرد على حديث ابن عباس رضي الله عنهما بالآتي:
أ- من جهة السند: الحديث مرسل والمرسل قسم من أقسام الضعيف.
ب- من جهة المتن: يحمل على التسوية في العطاء لا في صفته.
الرأي الراجح: ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول، وهذا ما أيده علامة القصيم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حيث قال: «واختلف العلماء هل التعديل أن يعطى الذكر والأنثى سواء، فإذا أعطي الذكر مائة أعطى الأنثى مائة، أم أن التعديل أن يعطيهم كما أعطاهم الله عز وجل في الميراث، يعني للذكر مثل حظ الأنثيين فإذا أعطي الذكر مائة أعطى الأنثى خمسين، وهذا القول هو الراجح لأنه لا قسمة أعدل من قسمة الله عز وجل». (شرح رياض الصالحين 4/38).
3- حكم تخصيص بعضهم لمعنى يقتضى تخصيصه:
مثل اختصاصه بحاجة أو زمانة أو عمى أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين:
الرأي الأول وأدلته
1- جواز ذلك، وقد روى عن أحمد ما يدل عليه لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف لا بأس به إذا كان لحاجة وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة والأعطية في معناه.
2- لأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية فجاز أن يختص بها كما لو اختص القرابة.
3- حديث بشير قضية في عين لا عموم لها.
الرأي الثاني وأدلته
المنع من التفضيل والتخصيص وذلك للآتي:
1- لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيرا في عطيته.
ويرد على ذلك بأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستفصال يجوز أن يكون لعلمه بالحال، وقد اعترض على ذلك بأنه لو علم بالحال لما قال: لك ولد غيره؟
ويرد عليه بأنه يحتمل أن يكون السؤال هذا لبيان العلة كما قال عليه السلام للذي سأله عن بيع الرطب بالتمر، "أينقص الرطب إذا يبس ؟" قال: نعم. قال: "فلا إذا"(1). وقد علم أن الرطب ينقص لكن نبه السائل بهذا على علة المنع عن البيع كذا هاهنا.
الرأي الراجح
هو الرأي الأول، وهذا ما رجحه العلامة ابن عثيمين رحمه الله حيث قال: «وهنا مسألة وهي أن بعض الناس يزوج أولاده الكبار، وله أولاد صغار فيوصي لهم بعد موته بمقدار المهر، وهذا حرام ولا يحل ؛ لأن هؤلاء إنما أعطيته لحاجتهم حاجة لا يماثلهم إخوانهم الصغار، فلا يحل لك أن توصي لهم بشيء، وإذا أوصى فالوصية باطلة ترد في التركة ويرثونها على قدر ميراثهم، كذلك أيضا بعض الناس يكون ولده يشتغل معه: في تجارته، في فلاحته، فيعطيه زيادة على إخوانه، وهذا أيضا لا يجوز ؛ لأن الولد إن كان قد تبرع بعمله مع أبيه فهذا بر، وثوابه في الآخرة أعظم من ثوابه في الدنيا، وإن كان لا يريد ذلك: يريد أن يشتغل لأبيه بأجرة، فليفرض له أجرة، مثلا للأكل شهر كذا وكذا، كما يعطى الأجنبي أو يقول: لك سهم من الربح، وأما أن يخصه من بين أولاده مع أن الولد قد تبرع بعمله وجعل ذلك من البر فلا يجوز له ذلك، وإن أعطى أحدهم لكونه طالب علم يحفظ القرآن، فإن قال للآخرين: من طلب منكم العلم أعطيته مثل أخيه، أو من حفظ القرآن أعطيته مثل أخيه، فطلب بعضهم وترك بعض، فهؤلاء هم الذين تركوا الأمر بأنفسهم فلا حق لهم، وأما إذا كان خص هذا دون أن يفتح الباب لإخوانه، فهذا لا يجوز»(2).
4- حكم التسوية بين سائر الأقارب:
اختلف الفقهاء في حكم التسوية بين سائر الأقارب على رأيين:
الرأي الأول: قال أبو الخطاب: المشروع في عطية الأولاد وسائر الأقارب أن يعطيهم على قدر ميراثهم، فإن خالف وفعل فعليه أن يرجع ويعمهم بالنحلة.
الدليل على ذلك: لأنهم في معنى الأولاد فثبت فيهم مثل حكمهم.
الرأي الثاني: ليس عليه التسوية بين سائر أقاربه ولا إعطاؤهم على قدر مواريثهم سواء كانوا من جهة واحدة كإخوة وأخوات وأعمام وبني عم أو من جهات كبنات وأخوات وغيرهم.
الدليل على ذلك
1- لأنها عطية لغير الأولاد في صحته فلم تجب عليه التسوية كما لو كانوا غير وارثين.
2- الأصل إباحة تصرف الإنسان في ماله كيف شاء.
3- إنما وجبت التسوية بين الأولاد بالخبر وليس غيرهم في معناهم لأنهم استووا في وجوب بر والدهم فاستووا في عطيته، وبهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: أيسرك أن يستووا في برك ؟ قال: نعم. قال: فسو بينهم. ولم يوجد هذا في غيرهم.
4- لأن للوالد الرجوع فيما أعطى ولده فيمكنه أن يسوي بينهم باسترجاع ما أعطاه لبعضهم ولا يمكن ذلك في غيرهم.
5- لأن الأولاد لشدة محبة الوالد لهم وصرفه ماله إليهم عادة يتنافسون في ذلك ويشتد عليهم تفضيل بعضهم ولا يساويهم في ذلك غيرهم فلا يصح قياسه عليهم ولا نص في غيرهم.
6- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم لبشير زوجة ولم يأمره بإعطائها شيئا حين أمره بالتسوية بين أولاده ولم يسأله هل لك وارث غير ولدك؟
الرأي الراجح: ما ذهب إليه أصحاب الرأي الثاني من عدم التسوية بين سائر الأقارب، وذلك إذا كانت النية لم تتجه إلى حرمانهم من الميراث مطلقا كأن يعطي أولاده هبات كبيرة فيخرج ثروته عن ملكه بغرض حرمان زوجته أو أمه من حقهما في الميراث بعد موته لعدم وجود ما يرثنه.
5- الأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب.
الدليل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائق الرجال»(3).
6- ولقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم». [صحيح](4).
7- لأنها أحد الوالدين فمنعت من التفضيل كالأب.
8- لأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحسد والعداة يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها فثبت لها مثله... في ذلك.
خامسا: ما الحكم فيما لو قسم الشخص ماله بين أولاده على سبيل الميراث حال حياته ثم وجد ورثة آخرون بعد وفاته لم يبق لهم مال يستحقونه؟
للإجابة عن ذلك نعرض فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية ردا على سؤال مفاده: «رجل له بنتان ومطلقة حامل، وكتب لابنتيه ألفي دينار وأربع أملاك، ثم بعد ذلك ولد للمطلقة ولد ذكر، ولم يكتب له شيئا، ثم بعد ذلك توفي الوالد وخلف موجودا خارجا عما كتبه لبنتيه، وقسم الموجود بينهم على حكم الفريضة الشرعية، فهل يفسخ ما كتب للبنات أم لا ؟»
فأجاب رحمه الله: هذه المسألة فيها نزاع بين أهل العلم، إن كان قد ملك البنات تمليكا تاما مقبوضا، فإما أن يكون كتب لهن في ذمته ألفي دينار من غير إقباض، أو أعطاهن شيئا ولم يقبض لهن، فهذا العقد مفسوخ، ويقسم الجميع بين الذكر والأنثيين، وأما مع حصول القبض، ففيه نزع، وقد روى أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، فلما مات ولد له حمل، فأمر أبو بكر وعمر أن يعطى الحمل نصيبه من الميراث، فلهذا ينبغي أن يفعل بهذا كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم». وقال: «إني لا أشهد على جور» لمن أراد تخصيص بعض أولاده بالعطية، وعلى البنات أن يتقين الله ويعطين الابن حقه(5).
الهوامش
1- ضعيف: أخرجه البيهقي في السنن (6/177)، وفيه: سعيد بن يوسف متفق على ضعفه، وذكره صاحب كنز العمال (45360) بلفظه وقال: مرسل، وعزاه إلى ابن عساكر وهو من طريق الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... وذكره وإسناده معضل. فالحديث ضعيف، والله أعلم.
2- صحيح: أخرجه أبو داود (3/ح3359)، والترمذي (3/ح1225)، والنسائي (7/ح4559)، وابن ماجه (2/ح2264)، والإمام مالك في الموطأ (2/624/ح22)، وإسناده صحيح، انظر الإرواء (1352).
3- شرح رياض الصالحين (4/301).
4- صحيح: أخرجه الترمذي (113)، وابن ماجه (612)، وأصل القصة في الصحيحين وغيرهما عن أم سلمة رضي الله عنهما.
5- مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، (16/31، 155).
فنتسائل ما الحكم فيمن يقول: إني أريد أن أقسم مالي بين أولادي قبل أن أموت حتى لا يتنازعوا عليه بعد موتي ؟
بداية نقرر أن ذلك الفعل لا يطلق عليه ميراث، وذلك لعدم تحقق الشرط الأول من شروط الميراث وهو موت المورث، فالمورث هنا لم يمت ومن ثم فلا يقسم ماله على ورثته.
ثانيا: نقول: إن ذلك الفعل قد يكون بنية حسنة وقد يكون بنية سيئة، فالنية الحسنة أن ينوي تقسيم المال على ورثته حتى لا يتنازعوا عليه بعد وفاته، والنية السيئة تكمن في حرمان بعض الورثة من الميراث كأن يكون للمرء زوجة وبنات وإخوة أشقاء فيقسم ماله على زوجته وبناته حتى لا يرث إخوته الأشقاء من ماله شيئا بعد وفاته، وهذا لا شك يدخل تحت قوله تعالى بعد أن انتهى من إعطاء كل ذي حق حقه من الميراث: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [النساء: 14] .
ثالثا: يرد على قوله: «حتى لا يتنازعوا عليه بعد موتي». بقوله تعالى: وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا [النساء: 9]، فمن خاف على أولاده أن يتنازعوا على ماله بعد موته فعليه أن يتقي الله ويسدد ويقارب ويربيهم على طاعة الله والخوف منه، وقد سمعنا عن أناس وزعوا مالهم على أولادهم في حياتهم ولم يتركوا لأنفسهم شيئا، فما كان من الأبناء إلا أن أعرضوا عن الأب ولم ينفقوا عليه بل ومنعوه من الانتفاع بماله حتى مات، وما هذا إلا لأنه أساء تربيتهم وخشي عليهم أن يتنازعوا على ماله بعد موته.
رابعا: يجوز للمرء أن يعطي أولاده من ماله على سبيل الهبة أو الأعطية في حياته مع مراعاة الآتي:
1- يجب عليه أن يسوي بين أولاده في العطية؛ لما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما، فقال: أكل ولدك نحلت مثله ؟ قال: لا. قال: فأرجعه.
وروى أيضا بسنده عن حصين بن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال: فرجع فرد عطيته. [رواه البخاري].
ولمسلم في رواية أبي حيان: «فقال: لا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور». وفي رواية المغيرة عن الشعبي عند مسلم: «اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر».
2- صفة التسوية:
اختلف الفقهاء في صفة التسوية على رأيين:
الرأي الأول: روى عن عطاء وشريح وإسحاق ومحمد بن الحسن تقسيم الأعطيات على حسب قسمة الله تعالى الميراث فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين.
قال شريح لرجل قسم ماله بين ولده: ارددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه، وقال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى.
الرأي الثاني: عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن المبارك تعطى الأنثى مثل ما يعطى الذكر.
الأدلة: دليل الرأي الأول
1- قالوا: إن الله تعالى قسم بينهم فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وأولى ما اقتدي به قسمة الله تعالى.
2- لأن العطية في الحياة أحد حالي العطية فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين كحال الموت (يعني الميراث).
3- العطية استعمال لما يكون بعد الموت فينبغي أن تكون على حسبه: كما أن معجل وجوبها يؤديها على صفة أدائها بعد وجوبها وكذلك الكفارات المعجلة.
4- لأن الذكر أحوج من الأنثى من قبل أنهما إذا تزوجا جميعا فالصداق والنفقة ونفقة الأولاد على الذكر، والأنثى لها ذلك فكان أولى بالتفضيل لزيادة حاجته، وقد قسم الله تعالى الميراث ففضل الذكر مقرونا بهذا المعنى فتعلل به ويتعدى ذلك إلى العطية في الحياة.
دليل الرأي الثاني
1- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد: «سو بينهم»، وعلل ذلك بقوله: أيسرك أن يستووا في برك ؟ قال: نعم. قال: فسو بينهم. والبنت كالابن في استحقاق برها وكذلك في عطيتها.
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سووا بين أولادكم في العطية ولو كنت مؤثرا لآثرت النساء على الرجال»(1).
3- لأنها عطية في الحياة فاستوى فيها الذكر والأنثى كالنفقة والكسوة.
الاعتراض على الأدلة
اعترض أصحاب الرأي الأول على أدلة الرأي الثاني بالاعتراضات الآتية:
1- حديث بشير قضية في عين وحكاية حال لا عموم لها وإنما ثبت حكمها فيما ماثلتها ولا نعلم حال أولاد بشير هل كان فيهم أنثى أو لا ؟ ولعل النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أنه ليس له إلا ولد ذكر.
2- تحمل التسوية على القسمة على كتاب الله تعالى.
3- يحتمل أنه أراد التسوية في العطاء لا في صفته فإن القسمة لا تقتضي التسوية من كل وجه، ودليل ذلك قول عطاء: «ما كانوا يقتسمون إلا على كتاب الله تعالى». وهذا خبر عن جميعهم.
4- يرد على حديث ابن عباس رضي الله عنهما بالآتي:
أ- من جهة السند: الحديث مرسل والمرسل قسم من أقسام الضعيف.
ب- من جهة المتن: يحمل على التسوية في العطاء لا في صفته.
الرأي الراجح: ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول، وهذا ما أيده علامة القصيم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله حيث قال: «واختلف العلماء هل التعديل أن يعطى الذكر والأنثى سواء، فإذا أعطي الذكر مائة أعطى الأنثى مائة، أم أن التعديل أن يعطيهم كما أعطاهم الله عز وجل في الميراث، يعني للذكر مثل حظ الأنثيين فإذا أعطي الذكر مائة أعطى الأنثى خمسين، وهذا القول هو الراجح لأنه لا قسمة أعدل من قسمة الله عز وجل». (شرح رياض الصالحين 4/38).
3- حكم تخصيص بعضهم لمعنى يقتضى تخصيصه:
مثل اختصاصه بحاجة أو زمانة أو عمى أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين:
الرأي الأول وأدلته
1- جواز ذلك، وقد روى عن أحمد ما يدل عليه لقوله في تخصيص بعضهم بالوقف لا بأس به إذا كان لحاجة وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة والأعطية في معناه.
2- لأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية فجاز أن يختص بها كما لو اختص القرابة.
3- حديث بشير قضية في عين لا عموم لها.
الرأي الثاني وأدلته
المنع من التفضيل والتخصيص وذلك للآتي:
1- لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيرا في عطيته.
ويرد على ذلك بأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستفصال يجوز أن يكون لعلمه بالحال، وقد اعترض على ذلك بأنه لو علم بالحال لما قال: لك ولد غيره؟
ويرد عليه بأنه يحتمل أن يكون السؤال هذا لبيان العلة كما قال عليه السلام للذي سأله عن بيع الرطب بالتمر، "أينقص الرطب إذا يبس ؟" قال: نعم. قال: "فلا إذا"(1). وقد علم أن الرطب ينقص لكن نبه السائل بهذا على علة المنع عن البيع كذا هاهنا.
الرأي الراجح
هو الرأي الأول، وهذا ما رجحه العلامة ابن عثيمين رحمه الله حيث قال: «وهنا مسألة وهي أن بعض الناس يزوج أولاده الكبار، وله أولاد صغار فيوصي لهم بعد موته بمقدار المهر، وهذا حرام ولا يحل ؛ لأن هؤلاء إنما أعطيته لحاجتهم حاجة لا يماثلهم إخوانهم الصغار، فلا يحل لك أن توصي لهم بشيء، وإذا أوصى فالوصية باطلة ترد في التركة ويرثونها على قدر ميراثهم، كذلك أيضا بعض الناس يكون ولده يشتغل معه: في تجارته، في فلاحته، فيعطيه زيادة على إخوانه، وهذا أيضا لا يجوز ؛ لأن الولد إن كان قد تبرع بعمله مع أبيه فهذا بر، وثوابه في الآخرة أعظم من ثوابه في الدنيا، وإن كان لا يريد ذلك: يريد أن يشتغل لأبيه بأجرة، فليفرض له أجرة، مثلا للأكل شهر كذا وكذا، كما يعطى الأجنبي أو يقول: لك سهم من الربح، وأما أن يخصه من بين أولاده مع أن الولد قد تبرع بعمله وجعل ذلك من البر فلا يجوز له ذلك، وإن أعطى أحدهم لكونه طالب علم يحفظ القرآن، فإن قال للآخرين: من طلب منكم العلم أعطيته مثل أخيه، أو من حفظ القرآن أعطيته مثل أخيه، فطلب بعضهم وترك بعض، فهؤلاء هم الذين تركوا الأمر بأنفسهم فلا حق لهم، وأما إذا كان خص هذا دون أن يفتح الباب لإخوانه، فهذا لا يجوز»(2).
4- حكم التسوية بين سائر الأقارب:
اختلف الفقهاء في حكم التسوية بين سائر الأقارب على رأيين:
الرأي الأول: قال أبو الخطاب: المشروع في عطية الأولاد وسائر الأقارب أن يعطيهم على قدر ميراثهم، فإن خالف وفعل فعليه أن يرجع ويعمهم بالنحلة.
الدليل على ذلك: لأنهم في معنى الأولاد فثبت فيهم مثل حكمهم.
الرأي الثاني: ليس عليه التسوية بين سائر أقاربه ولا إعطاؤهم على قدر مواريثهم سواء كانوا من جهة واحدة كإخوة وأخوات وأعمام وبني عم أو من جهات كبنات وأخوات وغيرهم.
الدليل على ذلك
1- لأنها عطية لغير الأولاد في صحته فلم تجب عليه التسوية كما لو كانوا غير وارثين.
2- الأصل إباحة تصرف الإنسان في ماله كيف شاء.
3- إنما وجبت التسوية بين الأولاد بالخبر وليس غيرهم في معناهم لأنهم استووا في وجوب بر والدهم فاستووا في عطيته، وبهذا علل النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: أيسرك أن يستووا في برك ؟ قال: نعم. قال: فسو بينهم. ولم يوجد هذا في غيرهم.
4- لأن للوالد الرجوع فيما أعطى ولده فيمكنه أن يسوي بينهم باسترجاع ما أعطاه لبعضهم ولا يمكن ذلك في غيرهم.
5- لأن الأولاد لشدة محبة الوالد لهم وصرفه ماله إليهم عادة يتنافسون في ذلك ويشتد عليهم تفضيل بعضهم ولا يساويهم في ذلك غيرهم فلا يصح قياسه عليهم ولا نص في غيرهم.
6- لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم لبشير زوجة ولم يأمره بإعطائها شيئا حين أمره بالتسوية بين أولاده ولم يسأله هل لك وارث غير ولدك؟
الرأي الراجح: ما ذهب إليه أصحاب الرأي الثاني من عدم التسوية بين سائر الأقارب، وذلك إذا كانت النية لم تتجه إلى حرمانهم من الميراث مطلقا كأن يعطي أولاده هبات كبيرة فيخرج ثروته عن ملكه بغرض حرمان زوجته أو أمه من حقهما في الميراث بعد موته لعدم وجود ما يرثنه.
5- الأم في المنع من المفاضلة بين الأولاد كالأب.
الدليل على ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائق الرجال»(3).
6- ولقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم». [صحيح](4).
7- لأنها أحد الوالدين فمنعت من التفضيل كالأب.
8- لأن ما يحصل بتخصيص الأب بعض ولده من الحسد والعداة يوجد مثله في تخصيص الأم بعض ولدها فثبت لها مثله... في ذلك.
خامسا: ما الحكم فيما لو قسم الشخص ماله بين أولاده على سبيل الميراث حال حياته ثم وجد ورثة آخرون بعد وفاته لم يبق لهم مال يستحقونه؟
للإجابة عن ذلك نعرض فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية ردا على سؤال مفاده: «رجل له بنتان ومطلقة حامل، وكتب لابنتيه ألفي دينار وأربع أملاك، ثم بعد ذلك ولد للمطلقة ولد ذكر، ولم يكتب له شيئا، ثم بعد ذلك توفي الوالد وخلف موجودا خارجا عما كتبه لبنتيه، وقسم الموجود بينهم على حكم الفريضة الشرعية، فهل يفسخ ما كتب للبنات أم لا ؟»
فأجاب رحمه الله: هذه المسألة فيها نزاع بين أهل العلم، إن كان قد ملك البنات تمليكا تاما مقبوضا، فإما أن يكون كتب لهن في ذمته ألفي دينار من غير إقباض، أو أعطاهن شيئا ولم يقبض لهن، فهذا العقد مفسوخ، ويقسم الجميع بين الذكر والأنثيين، وأما مع حصول القبض، ففيه نزع، وقد روى أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، فلما مات ولد له حمل، فأمر أبو بكر وعمر أن يعطى الحمل نصيبه من الميراث، فلهذا ينبغي أن يفعل بهذا كذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم». وقال: «إني لا أشهد على جور» لمن أراد تخصيص بعض أولاده بالعطية، وعلى البنات أن يتقين الله ويعطين الابن حقه(5).
الهوامش
1- ضعيف: أخرجه البيهقي في السنن (6/177)، وفيه: سعيد بن يوسف متفق على ضعفه، وذكره صاحب كنز العمال (45360) بلفظه وقال: مرسل، وعزاه إلى ابن عساكر وهو من طريق الأوزاعي قال: حدثني يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... وذكره وإسناده معضل. فالحديث ضعيف، والله أعلم.
2- صحيح: أخرجه أبو داود (3/ح3359)، والترمذي (3/ح1225)، والنسائي (7/ح4559)، وابن ماجه (2/ح2264)، والإمام مالك في الموطأ (2/624/ح22)، وإسناده صحيح، انظر الإرواء (1352).
3- شرح رياض الصالحين (4/301).
4- صحيح: أخرجه الترمذي (113)، وابن ماجه (612)، وأصل القصة في الصحيحين وغيرهما عن أم سلمة رضي الله عنهما.
5- مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، (16/31، 155).
محمد ابو الحمد- المدير العام
- عدد الرسائل : 160
العمر : 56
تاريخ التسجيل : 22/08/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى